()() انتحـــار مذيــع شريــر ()()
الأحد 11 فبراير 2007, 08:01 كتب :
" إقرا الحـــادثة ... إقرا الحــادثة " .. "جوزيـه خلع الجاكتة" .. " جوزيه خلع الجاكتة" و ظل هتاف الرجل متواصل بشكل روتيني وكأنه يهتف بنشيد الصباح الذي تعود كل صباح أن يردده ... ، بينما هو يخطو داخل ذلك المقهى الشعبي الذي اكتظ برواده ... ، و ...
هكذا هتف رجل في أواخر الخمسينيات اكتسي شعره باللون الأبيض .. الذي أعطي له هيبة ووقار .. غير مألوفين علي رواد ذلك المقهى الشعبي .. بتلك الكلمات مستنكرا .. ! ، ثم أضاف :
" هذا الرجل يعبث بعقول المشاهدين ... لطالما توقعت ذلك بفراستي .. ، انه يشبه الثعابين في تملقهم ... حتى يصبو إلي ما يريده .. ذلك النوع من البشر أنا أعرفه وأحفظه عن ظهر قلب " .
قابله عم "عبده" بنظرة مستنكره وأخذ يرقب في حظر انفعالاته .. ، وهو يردد : " ولكن يا فندم .. ده "المذيع" الوحيد اللي بيحاول يبقي محايد ، هوا حضرتك مش شايف انه ساعات يبقي مع "الأهلي" ، وساعات مع "الزمالك" .. ، وهوا ده الحياد الإعلامي اللي بنسمع عنه .. "
انطلقت ضحكات هذا الرجل الوقور الذي ارتج كرشه بعنف ، وضاعت علامات الوقار والهيبة من ملامحه مع ضحكاته التي غطت علي نفير العربات وصوت عم "ماهر" الذي ما زال يدعو المارة لقراءة الحادثة ، وأخذ يشاور بيده قائلا ..
" يا عم "عبده" الراجل ده بيفكر بالأسلوب ده و فاكر انه بيضحك علي عقول الجمهور ، وحركاته بقت مكشوفة للجميع ، هتلاقيه جاي النهارده يطبخ عقوبات علي "جوزيه" في البرنامج الملاكي بتاعه و راسم دور البراءة و هوه بيوجه الحلقة لتحقيق أهدافه ، غير إن فين كلامه عن الحادثة الحقيقية بتاعة "ليبيا" .. كل ده بروباجندا عشان يلهي الناس في مشاكل تانية ويغطي علي فضائح الإتحاد بتاعه ، وكمان يدافع عن خيبتهم السودا ، ومؤامراتهم علي أحسن فريق في مصر ، لما جابوا الحكم الإماراتي المشبوه "الفريد" من نوعه " .
ثم استدرك قائلا : " اصبر بس انت و هتشوف كلامي ، و اتفرج عليه النهارده و شوف الطبخ اللي بيعمله في الحلقة " .
هنا انطلق صوت شاب في العشرينات من عمره ، و وقف وهو ممسكا بكوب العِناب المثلج ، وصرخ بغضب :
" المذيع ده نهايته قربت أوي ، أنا معدتش طايق الراجل ده ، ثم ارتشف رشفة من كوب العصير ، وقال أنا موافقك يا أستاذ ، وطبعا النهارده هيجيب صحفي أصفر معاه ويزود في الحادثة وكأن "جوزيه" قتله أبوه ! " .
ضحك كل من في المقهى علي كلمات الشاب ، وأخذ الجميع في صب سخطهم علي هذا المذيع "الشرير" الذي يخاصم برنامجه الحقيقة ، بينما غادر هذا الرجل الوقور المقهى ، وترك المقهى مكتظا عن آخره ، والحديث علي يدور إلا علي شخص واحد .
شخص أراد أن يكرهه الناس ، "مذيـــع" ، "مذيــع شريــر" .. ! .
***********
" لم أستطع الاحتمال ، أي إجرام وابتذال هذا الذي يقتحم به التلفزيون بيوتنا ، أمام عيوننا وحريمنا و أطفالنا وكِبارنا ، ألم يراعي هذا البرتغالي شعورنا ، لقد خدش حياءنا و لو تُرِك لي الخيار لحطمت الجهاز و ليذهب الذين تطوعوا بلم فلوس الجمعية إلي الجحيم .. !" .
بهذه الكلمات بدأ المذيع "الشرير" برنامجه اليومي "الجاني اليوم" ، والذي دأب فيه علي الهجوم علي كل شيء إلا ادارة الإتحاد الذي يحتل فيه منصف رفيع ، و بطريقة مسرحية غمز لضيفه أن يشن هجومه ، جاوبه ضيفه الذي عقد حاجبيه علي غرار الممثلين المحترفين ، مبديا استيائه مما شاهده قائلا :
" مدرب برتغالي يقلع في الملعب هدومه ... ثم أخذ يكرر هذه العبارة التي سئمنا تكرارها كما الإسطوانة المشروخة .. " هل يجرؤ علي فعل هذا في البرتغال .. ؟! " ، ثم واصل الصحفي :
" أمثال هذا المدرب هم سبب كوارث الكرة المصرية ، هو من جعلنا نفشل في الوصول لكأس العالم دائما " تصرفات هذا المدرب أفقدت أولادنا تركيزهم فخسر منتخب شبابنا أمام "زامبيا" ، وفشل منتخبنا الأولمبي لأن صورته كانت في ذهن لاعبينا ، يا سيادة المذيع وجود هذا المدرب في مصر يمثل خطرا داهما علي أولادنا وبناتنا ، و يعطل من تقدمنا الرياضي ".
" سيادة النائب هذا "البرتغالي" سيؤدي إلي كوارث أمنية علي مصرنا الحبيبة ، أرجوك اطردوه إلي حيث أتي ، وليقلع هناك كل ملابسه .. !" .
ظهر الإرتياح علي وجه المذيع فيما حاول أن يعطي صوته مزيدا من الرصانة والهدوء ، وهو يسأل سؤال الحلقة اليومي ، "ما رأيك في تصرف المدرب البرتغالي ؟ " :
"هل هو تصرف سيء ، تصرف قبيح ، تصرف سافل ، جميع ما سبق ؟ "
وخلف الكواليس ، ظهرت السعادة علي ملامح المذيع "شرير" ، وقال لضيفه : " كده تمام أوي ، عايزك بقي تضخم أكتر وتهول من الموضوع ، وتدينا تصور مبدئي بعقوبة تكون قاسية جدا ، عشان أنت عارف بقي تهيئة للرأي العام وكده يا حبي" .
ضحك الضيف بطريقة مقززة ... وأشار بيديه قائلا : " يا فندم لو عايزني أرحله بره مصر أرحلهولك ، امال أنا جاي هنا ليه ، أنا تحت أمرك يا سيادة النائب " .
ظهرت علامات المكر علي وجه المذيع ، وارتسمت علي شفتيه ابتسامة ملؤها السخرية والظفر و ........ الشــــــــر .
***********
عبر المذيع "شرير" بوابة النادي القاهري الشهير الملقب بنادي القرن الأفريقي ، رافعا يديه ملقيا التحية لحارس النادي ، فيما لم يعيره الحارس أي اهتمام ، و واصل سيره صامتا ، خطواته وئيدة مترفعة و بصره إلي الأمام متحاشيا نظرات الكراهية التي تتفرسه بها العيون علي جنبات النادي ، يحاول ايهامهم بأنه لا يبالي بشيء ، وأنه ما زال يمتلك الكبرياء ، ولكن النزيف بداخله لم يتوقف ، عبثا يحاول إيقافه – عبثا – لن يجدي افتعال الكبرياء ، نظرات العداء والمقاطعة تعذبه .. الشعور بالوحدة ينفث الصقيع في قلبه ، لا أحد يقترب منه كأنه الوباء ، عداء أبناء ناديه هو ما يعذبه ، لم يعد يحتفي به أحد ، حتى تحيته لهم يردونها بفتور ، فوق هذا يواجه في عيونهم الاحتقار عندما يفسر نفسه وينظر إليهم أثناء مروره .
و انقطع حبل أفكاره مع اقتراب حارس النادي منه ، وظن أنه أتي لتحيته ، ولكنه ناوله ورقة مطوية ، وابتعد عنه مسرعا ، و فرد الورقة ، دهمت الكآبة وجدانه عندما قرأ المانشيت العريض ، و أخذ ينظر للعنوان بذهول قبل أن يتابع التفاصيل ، و ما أن فرغ من قراءة سطور الورقة حتى انزلقت الورقة من يده ، ولم يهتم بإعادتها ، ونكس رأسه إلي الأرض بدون أن يقول شيئا ونهض متثاقلا ، قدماه تحجرتا في مكانه ، و لم يحرك ساكنا ، و ألقي نظرة أخيرة علي النادي ثم تحرك ببطء و لم يطق البقاء في النادي وعيون الآخرين ترقبه من بعيد ، و الإيماءات تشير نحوه ..
فصفق لعامل النادي ليحاسبه ويعطيه الإكرامية كالعادة ولم يهتم الرجل حتى بأن يشكره فاجتاحه الألم لتنكر الناس له هكذا بطريقة جماعية ، و ألقي نظرة علي الورقة الملقاة علي الأرض واختلج قلبه بالحزن ، و أوشكت أن تطفر دموعه ، هذا لأن السطور التي قرأها لتوه ، كانت بيان ضده .
بيان يفضحه ويكشف أكاذيبه ، بيان من ناديه السابق ، " بيان يحمل اسم النادي الأهلي " .. !
***********
جاء يوم الجمعة ، يوم الأجازة الأسبوعي والذي يكتظ فيه هذا المقهى الشعبي بزائريه ، وبعد أن استمتع الجميع بأوقاتهم ما بين لعب الطاولة والتسالي ، بدأ عرض البرنامج الأسبوعي للمذيع "الشرير" .
" الدفاع عن مصالحنا .... والضيف جاي يساندنا "
وبدأت الحلقة بظهور المذيع "شرير" ، الذي وضح علي أثره القهر والذل اثر تأديب النادي الأهلي له ومقاطعته إداريا وجماهيريا ، وباءت محاولته استجداء الجماهير بعظمة الأهلي ومهارته وحنكته وجماله ... بالفشل . !
وظل جمهور المقهى الشعبي يضحك بشدة مع كل كلمة ينطق بها هذا المذيع ، ويحاول بها مغازلتهم بها ، و وضح أنه أصبح مكشوفا للجميع .
هنا أشار ذلك الرجل الأشيب الشعر بابهامه ورفع يديه بطريقة مسرحية قائلا : " قلت لكم هذا كثيرا ، يبدو ان هذا الشرير أراد أن يكرهه الناس ، و نجح في أن يجمع علي كراهيته الناس بشكل غير مسبوق " .
سكت جمهور المقهى برهة قصيرة ، و ما أن بدأ المذيع "شرير" فقرته التحكيمية ، حتى ضج المقهى بهيستيرية ضحك جعلت جميع المارة يتجمهرون حول شاشة التلفاز ، ليروا سر هذه الهستيرية من الضحك ، و ما أن شاهد الجمهور لقطات تحكيمية لنصف قرن من الزمان ، لم تتجاوز في مجملها أربعة أخطاء ، حتى انفجروا في الضحك مطالبين صاحب المقهى أن يغير مؤشر القناة ، أمام هذا البرنامج "الملاكي" الذي لم يري أضعاف هذه الأخطاء في المباراة الواحدة في زمن رئيسه المغرور .
بينما وقف أحد الشباب يقلد المذيع الشرير قائلا : " يا جماعة الحكم ده بشر ، وعمره ما كان في خطر ، التحكيم والله في آمان ، ومتنسوش ان الحكم إنسان " .
ضج المقهى في الضحكات مرة أخري ، ليأتي صوت عم "عبده" من ركن المقهى وهو يقول :" متنسوش إنه واخد قلم من ادارة الأهلي ، و كان نفسه يشوف د . ذويل " و انفجر الجميع في الضحك ، ولم يسود الهدوء المقهى إلا مع صوت عم ماهر يردد :
"إقرا الحادثة .. إقرا الحادثة .. انتحار المذيع شرير .. انتحار المذيع شرير "
و قد كان صادقا في كل كلمة يقولها ، فما شاهده علي الشاشة هو انتحار بالفعل " انتحار أخلاقي ... لمذيع شرير " .. !
***********
بعد 3 سنــوات .. " وحدوه .. وحدوه .. يـا خلق الله " !
تناهت إلي مسامع المذيع "شرير" تلك الصيحة الهادرة لرجل ضرير .. ، وهو يعدو إلي منزله مسرعا ، وأحس أنها تهز قلبه ، ثمة إحساس غامض يراوده بأنها تتضمن شيء يعنيه ،أيكون العجوز الأعمى ضمن المؤامرة ؟! ، ماذا دهاه ... أهي بداية الجنون أم هلوسة عقل أمرضته الأزمة .
وعاد العجوز يردد صيحته ، و اهتز قلبه مرة أخري بشحنة الاحساس الغامضة وهو يدلف داخل بيته .
استلقي فوق الفراش بملابسه ، و الإعياء يمض جسده ، ضاع كل شيء .. كل شيء ، لا فائدة ، سيدان ويتحطم ، وحتى لن يجد أحدا بجواره بعد أن فقد منصبه بمجلس الشعب وغابت عنه الحصانة ، و ضاع منه برنامجه اليومي بعد أن سحبه منه رئيس المحطة ، وها هي الجماهير التي لعب علي أوتارها كثيرا تعاديه و تلفظه ، لقد خُدعت فيه كثيرا وهي تبغضه الآن ، لم يرتبط بها من البداية و الآن يدفع الثمن .
نهض من فراشه وقد خطرت له فكرة ، سيتخلي عن كبريائه ويذهب إلي ناديه ليقنعهم ببراءته ، لن يقنط حتى ولو أهانوه ، سيدق علي أبواب قلوبهم مهما أوصدوها .
خرج إلي الشارع ملهوفا بالفكرة ، و بعد بضع خطوات عادت الهواجس تراوده ، انقضت علي الفكرة تصرعها ، لن يصدقوه ، لأنهم يكرهوه ، لا جدوى ، لن يعود إلا بالمزيد من احتقارهم وهزيمة كرامته .
"الموت هو الخلاص ... هذا قراره " ، ولكن أين يذهب ؟ ، كل الأبواب مغلقة ، كل المنافذ مسدودة ، وهمّ بالعودة ، و قبل أن يخطو مستديرا تناهت إليه صيحة الأعمى بجوار الجدار :
" وحدوه .. وحدوه .. يا خلق الله " .. !
توقف "شرير" يحدق في العجوز الأعمى ، يقينا رأي هذا الرجل من قبل ، أين .. ومتى .. ؟! ، و من لجة الذاكرة المضطربة تترائي له صورته باهتة و لكنها مؤكدة .
"وحدوه .. وحدوه .. يا خلق الله " .. !
عاد العجوز يرددها ... ، أهي نداء قدر يخاطب العالم كله ، أم يراه يطلقها من أجله وحده .. ؟!
ابتسم متوهما أنه يراه ثم واصل سيره ، و انطلقت الصرخة ، صرخة مدوية انتفض علي أثرها سكان تلك المنطقة الهادئة ، و في الصباح تصدر ذلك الخبر عناوين الصحف ، يما ظل بائع الجرائد ، أمام هذا المقهى المعروف يردد :
" إقرا الحادثة .. إقرا الحادثة ...
انتحار مذيع شريـــر .... انتحار مذيع شريــــر " .. !